Iمستويات النظم ومراتبه عند الجرجاني:
رضوان الرقبي
باحث في البلاغة والتداوليات
-1 مفهوم النظم:
النظم التأليف، نظمه ينظمه نظما ونظاما، نظمه فانتظم وتنظم، ونظمت اللؤلؤ، أي جمعته في السلك، والتنظيم مثله ومنه، نظمت الشعر ونظمته، وكل شيء قرنته بأخر أو ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته... والنظم ما نظمته من لؤلؤ وخرز وغيرهما واحداته نظمه .
ويقال: نظمت الدر ودر منظوم ومنظم، وقد انتظم وتناظم وله نظم منه، ونظام ونظم، ومن المجاز: نظم الكلام: هذا نظم حسن، وانتظم كلامه وأمره وليس لأمره نظام إذا لم تستقم طريقته .
ونظم الأشياء نظما: ألفها وضم بعضها إلى بعض، نظم اللؤلؤ ونحوه، جعله في سلك ونحوه، وانتظم الشيء: تالف واتسق يقال نظمه فانتظم، ونظم الأشياء جميعها وضم بعضها إلى بعض، وتناضمت الأشياء تضامت وتلاصقت، ويقال: نظم القران أي عبارته التي تشتمل عليها المصاحف صيغة ولغة .
تلك أهم المعاني التي وردت في معاجم اللغة عن مادة نظم، وهي تدور حول معنى الاتساق والترتيب والائتلاف والتناسب بين الأجزاء. وإذا كان " نظم حبات اللؤلؤ في الخيط يستوجب التأني في إحكام الصنعة ليبدو العقد سليما في مظهره، فكذلك نظم الكلام يتطلب دقة الإحكام، ووضع كل لفظة بجانب أختها، صنيع ناظم اللؤلؤ وحائك الخيوط" .
أما عن معنى النظم في الاصطلاح البلاغي والنقدي، فله معان متعددة منها ما يتفق مع المعنى اللغوي، وبعضها يرمي إلى معنى أخر، فعند الجاحظ ترد كلمة نظم مرادفة للتأليف والبيان والإنشاء... وعند ابن قتيبة بمعنى السبك، أما العسكري فيرى أن النظم في حسن التأليف وجودة التركيب وحسن الوصف .
وعلى هذا الأساس فالمعنى المشترك بين اللغة والاصطلاح، وهو ضم الشيء إلى الشيء وتنسيقه على نسق واحد، وهو أصل المعنى الذي ذهب إليه عبد القاهر الجرجاني.
إن الحديث عن النظم عند الجرجاني حديث عن الإعجاز، وهو في الآن ذاته حديث عن الشعرية أو الأدبية، وهي ما يجعل من كلام ما عملا أدبيا، والفرق بينهما في الدرجة، حيث النظم في الإعجاز يمثل النظم المتعذر، بينما النظم في الكلام البشري يمثل النظم المقدور عليه لما فيه من تفاوت .
وردت لفظة النظم ومشتقاتها عند عبد القاهر الجرجاني 279 مرة موزعة على الشكل التالي:
اسم الكتاب عدد الاستعمالات
أسرار البلاغة 26
دلائل الإعجاز 184
الرسالة الشافية 69
وعلى هذا الأساس سنحاول في هذا العمل تبيان أهم المستويات التي تحدث عنها عبد القاهر الجرجاني في نظريته النظمية، و مبينينا كذلك مراتب هذا النظم.
1-1 مستويات النظم عند عبد القاهر الجرجاني:
جاء عبد القاهر الجرجاني إلى حقل الدراسات البلاغية القديمة، ومعه كل المقومات التي جعلت منه إمام البلاغيين بدون منازع، فقد أحسن تلقي ما كتب في قضية الإعجاز، فاخذ منه ما رآه متفقا مع أصول نظريته، وأضاف إليه الكثير، ولذلك نجده قد تناول قضية النظم في إطار ثلاث مستويات أساسية هي:
1ـ المستوى النفسي:
يظهر هذا المستوى عندما يفرق عبد القاهر بين الحروف المنظومة والكلم المنظوم، فيقول:" نظم الحروف هو تواليها في النطق، وليس نظمها بمقتضى عن المعنى، ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه.... وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتفي في نظمها أثار المعاني، وترتبها على حسب ترتب المعاني في النفس" .
وقد عبر الجرجاني عن هذا المستوى النفسي بجملة من المفاهيم منها: النفس والفكر والعقل... وعلاقة المعنى بتلك المفاهيم من حيث الترتيب والتلبس والاقتضاء، يفضي إلى اعتبار المعاني صورا ذهنية محفوظة عن العالم الذي يحيط بنا، وهي توجد في ذهن الإنسان باعتبارها مادة خام؛ إذا ما نُظر إليها قبل أن تتصل بقواعد النحو وقيود التعليق، فهي من جملة النظام اللغوي الذي يكتسبه الأفراد من خلال احتكاكهم ـ منذ خلقوا ـ مع العلم الخارجي، وهذا المعنى النفسي لا لفظ له، لأنه يمثل مرحلة ما قبل التلفظ، فطبيعة المرحلة اقتضت ألا يكون له مقابل لفظي .
وإذا كان الجرجاني قد أكد على أن الألفاظ تترتب على حسب ترتب المعاني في النفس، فلأنه كان مدفوعا بنزعة أشعرية التي تعتبر الكلام نفسيا، عكس نزعة المعتزلة التي اعتبرته ماديا، ولذلك نفى الجرجاني أن تحمل الألفاظ معنى قبل أن تجيش المعاني في النفس، لأن المعاني عنده هي أول ما يعترض النفس، ثم بعد ذلك تتدفق الكلمات على اللسان، " فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق، فأما أن تتصور في الألفاظ أن تكون مقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب، وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكرا في نظم الألفاظ....فباطل من الظن ووهم يتخيل" .
فالمعنى يتولد في النفس مع ألفاظه الدالة عليه، وينشأ كل ذلك في النفس دفعة واحدة لأنه " لا يتصور أن تعرف للفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما، وأنك تتوخى في الترتيب في المعاني وتعمل الفكرة هناك، فإذا تم لك ذلك اتبعتها الألفاظ وقفوت بها أثارها، وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها ولاحقة بها" .
وإذا تتبعنا كلام عبد القاهر الجرجاني وجدناه يعتبر اللفظ مجرد وعاء يوضع فيه كنز ثمين، ألا وهو المعنى فينساب اللفظ على اللسان تبعا له، ولا يمكن لهذا اللفظ أن يؤدي أية خدمة للمعنى إن كان منفردا، إلا إذا كان مُرتبا ومُعلقا بعضه ببعض.
كما تحدث الجرجاني عن الآثار النفسية التي يحدثها حسن النظم في المتلقي، إذ اعتبر حسن التأليف والسبك ووضع الألفاظ مواضعها، هي التي تجعل متلقي النص يشعر باهتزاز نفسي وأريحية، قائلا:" وإذا قد عرفت ذلك، فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن وتشاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من اجل النظم خصوصا دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر، من معنى لطيف... وتأمله فإذا رايتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحية مم كانت؟... فانك ترى عيانا أن الذي قلت لك كما قلت" .
إذ ليس القصد من النظم عند الجرجاني، أن ترص الكلمات رصا وتراد على مكانها إرادة لا يقتضيه المقام، ولا تدعو إليه وجوه الحسن والاعتبار، وإنما تتلاقى الكلمات في النطق مترسمة خطى المعاني القائمة في النفس، والتي يريد أداءها إلى غيره لقصد يتحراه وغاية يهدف إليها.
وهنا يقرر عبد القاهر "أن الألفاظ أوعية للمعاني، وان المعاني المصبوبة في هذه الأوعية لا بد أن تختار لها الألفاظ المتكافئة وإياها، فلا يصب المعنى الكبير في وعاء ضيق، وكذلك المعنى الضئيل لا يصب في وعاء واسع، ومعنى هذا أن الرجل يدعو إلى أن تكون الألفاظ على قدود المعاني وملابسة لها أتم ملابسة، حتى لا تعافها النفس ويتأبى عليها الذوق وينفر منها الإحساس" .
2 ـ المستوى النحوي:
تحدث الجرجاني عن النظم باعتباره تعليقا للكلم بعضها ببعض قائلا: "معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب بعض." وحديثه عن هذا التعليق هو حديث عن العلاقات التي تربط أجزاء الكلام بعضه ببعض، " فلا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبني بعضها ببعض ... وإذا كان كذلك، فبنا أن ننظر إلى التلعيق فيها والبناء... ما معناه وما محصوله؟.... لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا، أو تعمد إلى اسمين فتجعل احدهما خبرا عن الأخر" .
فدراسة العلاقات بين الكلمات في التركيب، وفهم دلالاتها في أوضاعها المختلفة، هي الدراسة الموضوعية حقا، هي التي تعين على فهم النص وتذوق ما فيه من جمال، وبذلك تربى الذوق الأدبي، وتطبعه على اليقظة ونفاذ البصيرة .
ولذلك فالجرجاني يقرر أن سلامة الأساليب وصحتها رهينة بمطابقتها لقواعد النحو العربي، قائلا:" اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها" .
وحسن توظيف النحو، والوقوف عند فروقه هو الذي جعل الجرجاني يحكم للبحتري بالجودة والمزية في أشعاره، لأنه التزم بمبادئ معني النحو، من تقديم وتأخير وحذف وإضمار.... ووظفها توظيفا جماليا، أكسبت شعره رونقا يجعل النفس تهتز إليه اهتزازا، ففي تحليله لأبيات البحتري التالية:
بَلَونَا ضَرائِبَ مَنْ قَدْ نَـــرى فَمَا إنْ رَأَينَا لِفَتْــــحٍ ضَرِيبَا
هُو المَرءُ أبْدَتْ لَهُ الـــحَادِثَا تُ عَزْمَاً وَشِيكَاً وَرأيَا صَلِــيبَا
تـَنَقَّلَ فِي خُلُـــقَي سُــؤدَدٍ سَمَاحَاً مُرجَّى وَبأسَـــا مَهِيبَا
فَالكَسَّيفِ إنْ جِئتَهُ صـــَارِخًا وَكَالبَحْرِ إنْ جِئتَهُ مُسْـتـَــثِيبَا
يقول الجرجاني مبينا أن سبب انس النفس بهذه الأبيات، راجع إلى التزام البحتري بقواعد النحو ومعانيه: " فإذا رايتها قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازا في نفسك، فعد فانظر في السبب واستقص في النظر، فانك تعلم ضرورة أن ليس إلا انه قدم وأخر وعرف ونكر وحذف واضمر وأعاد وكرر، وتوخى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كله، ثم لطف مواضع صوابه، واتى بما يوجب الفضيلة" .
وتأسيسا على ما سبق يتبين أن معاني النحو عند الجرجاني على درجتين:
ـ درجة تجري فيها معاني النحو في حدود الصحة المعروفة عند علماء النحو بالمعنى الشائع عندهم.
ـ درجة تجري فيها هذه المعاني في ميدان التخير، وهو ما يمكن تسميته بالنحو البلاغي الذي به قال عبد القاهر، والذي عرضته نظريته في النظم .
وهكذا فالدرجة الأولى تمثل الجانب التواصلي الذي يستدعي من المتكلم الاستعانة بقواعد النحو، لكي يكون سليما، أما الدرجة الثانية فهي تمثل الجانب الفني الذي يسمو بالكلام إلى درجة تهتز لها النفوس وترتاح، وهذه الدرجة هي مناط اهتمام عبد القاهر، فقد اعتبر احمد عامر بحث الجرجاني في معاني النحو أو النحو البلاغي بحثا جديدا، فكان " أول عالم اخرج النحو من نطاق شكليته وجفافه، وسما به فوق الخلافات والتحملات حول الإعراب والبناء، وبعث فيه دفء اللذة الشعورية والعقلية معا، وأخضعه لفكرة النظم، واخضع فكرة النظم إليه" .
وبهذا لم تعد قواعد النحو مقصورة على الإعراب، متسمة بالجفاف كما عهدناها في كتب النحو الخالصة، وإنما صارت على يديه وسيلة من وسائل التصوير، ومظهرا من مظاهر البراعة ومقياسا يهتدي به إلى الجودة .
فثقافة عبد القاهر النحوية وإمامته لهذا العلم كانت من الروافد التي أمدته بفكرة النظم، إذ أن دائرة البحث النحوي في مصادرها الأولى التي اطلع عليها لم تكن تقف عند حدود النظر في أواخر الكلمات، وإنما تناولت في كثير من الأحيان النظر في الأسلوب من حيث صحته وفساده ومطابقته لغرض المتكلم، وقد ساعد ذلك عبد القاهر في الجانب النظري حين جعل النظم عبارة عن توخي معاني النحو فيما بين الكلم .
فالمنهج الذي اتخذه في دراسته للنظم خاصة وللبلاغة عامة، هو المنهج اللغوي القائم على الاستفادة من النحو في التحليل، وقد أشار المعاصرون إلى هذا المنهج واعتبروه من أنجع المناهج في التحليل البلاغي. يقول محمد زكي العشماوي:"وهذا المنهج الذي يفسر القيمة في الأدب بما يكون بين اللغة من علاقات، هو المنهج الذي تلتقي فيه فلسفة اللغة بفلسفة الفن... ودعوة عبد القاهر إلى التزام المنهج اللغوي في دراسة الأدب ونقده تلتقي مع وجهة النظر الحديثة" .
ولهذا نقل الجرجاني النحو إلى جو يزخر بالحيوية، وجعل موضوعاته ميدانا يجول فيها ذهنه الوقاد وقلمه البليغ، ويطلع الناس على ألوان من التعبير مرت بهم ولكنهم لم يتذوقوها ولم يقفوا على روعتها وجمالها حتى جاء، فإذا التقديم والتأخير والذكر والحذف والفصل والوصل... مادته التي أعاد تشكيلها وأضفى عليها من روحه ما لا نجده عند السابقين .
وعلى العموم فمنهج عبد القاهر، هو منهج النحو الذي لا يقف عند حدود الحكم بالصحة والفساد، بل يمتد إلى البحث في العلاقات التي تقيمها اللغة بين الكلمات، والى اجتلاء معانيها، وكشف غامضها. وبذلك اتسع أفق النحو وغنيت مادته، ودخل فيه كل ما يراعى في النظم من تقديم وتأخير وذكر وحذف وإضمار وما إلى ذلك من أسباب الجودة، مما استقر عليه العرف فيما بعد بما يسمى علم المعاني، ومن ثم فإن الأساس عند الجرجاني هو النحو، على أن يشمل النحو المعاني، وان يتجاوز القواعد النحوية إلى الجودة الفنية، أي إلى الشعرية أو الأدبية.
3 - المستوى التداولي:
هذا المستوى هو موضوع الدراسة، وهو مناط النظم عند الجرجاني بالإضافة إلى معاني النحو، ذلك أن الكلمة عنده لا تكتسب قيمتها إلا إذا وضعت في سياقها، وفي علاقتها بالألفاظ التي تليها، ولذلك تحدث الجرجاني عن المقاصد والمقامات، وبان اللفظة لا معنى لها ولا قيمة لها إلا إذا ارتبطت مع جاراتها في علاقات مقامية قائلا:" ...وإذا كان هذا كذلك، فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة" .
فالجرجاني بهذا يعطي تصورا جديدا للبلاغة العربية التي احتل فيها المقام مكانة مهمة، لان شأن المقامات والأغراض والمواقع في الكلام، شأن له ارتباط وثيق بالنفس وطبائعها، ولذلك فهو يقرر أن" الشعرية لا تعود إلى ألفاظ اللغة مقطوعة منفصلة، وإنما تعود إلى النظم المتمثل في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها في سياق معين يسوده التناسق والانتظام في الدلالة" .
وهكذا يقرر الجرجاني أن ربط المعاني النحوية بمقامات الكلام ومقاصد المتكلمين، هو جوهر العلم الذي إليه ترجع جودة الكلام، والحديث عن مقاصد المتكلمين" هو النصف الأول في كلام عبد القاهر... لان علم المعاني تخلَّق بين يدي عبد القاهر بحركة قريبة وبضربة بالغة الذكاء والنفاذ والإصابة والتوفيق، هي انه جاء على معاني النحو.... وأدراها على مقاصد المتكلمين، ونظر في مدى إصابة معاني النحو لهذه الأغراض والمقاصد، ورأى أن في هذه العلاقة يكمن علم شريف هو علم بلاغة الكلام وإعجاز القران، وان حظ الكلام من الجودة إنما هو بمقدار حظه من هذه المواءمة بين معاني النحو و مقاصد المتكلمين" .
يقول الجرجاني:" وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فأعلم أنَّ الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عِندها، ونهايةٌ لا تجد لها ازديادا بعدها، ثمَّ اعلم أن ليست المزيّة بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تَعْرِض بسبب المعاني والأغراض التي يُوضع لها الكلام، ثم بحسَب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض" .
وهذا ما يذكرنا بأحد المفاهيم المقدمة للتداولية على أنها تدرس المعنى في ضوء علاقته بموقف الكلام، والموقف الكلامي يشتمل على جوانب عديدة يمكن أن نجملها في:
1- المخاطَبين والمخاطِبين: وهم المتحدثون والمستمعون.2
- سياق التلفظ: للسياق عدد من التعريفات، فهو ينطوي على الجوانب الفيزيائية والاجتماعية ذات الصلة بالتلفظ، وينظر إليه في التداولية على انه المعرفة المسبقة التي يفترض أن يشترك بها المتكلم والمخاطب، وتساهم في تأويل الأخير لما يقصده الأول.
3- هدف التلفظ:
4- الفعل الانجازي: تتناول التداولية الأفعال التلفظية أو الأداء الذي يحصل في موقف معين،
وفكرة النظم عند الجرجاني هي وضع الألفاظ مواضعها، لأن الكلام وحدة شاملة يساند بعضه بعضا، فلو أزلنا لفظة من موضعها لهوى البناء، لا هذه اللفظة لا تثبت لها مزية أو خلافها إلا وهي داخلة في نظم الكلام، ومما يشهد على لذلك" انك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في عدة مواضع، ثم ترى لها في بعض ذلك ملاحة لا تجدها في الباقي" .
وعلى هذا الأساس فالمعاني تتأثر بالمقامات وتنفعل بها، فتنوع المقامات يساهم في توليد معاني جديدة ومتنوعة لا حصر لها، إن على مستوى معاني الألفاظ مفردة، أو على مستوى معاني التركيب، ولذلك يقرر أن" مزية اللفظة تكمن في ملاءمة معناها لمعنى التي تليها، ولا يمكن أن يعرض لها الحسن والشرف، إلا من حيث لاقت الأولى الثانية والثالثة الرابعة... لان الألفاظ المفردة من أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لان يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينها فوائد" .
فاللفظة لا تؤدي معنى مفيدا إلا داخل بنية لغوية، تضم فيها الكلمة إلى الكلمة وتبنى اللفظة على اللفظة، وقيمتها داخل البنية أو النظام اللغوي تحددها درجة مواءمتها واتفاقها مع جارتها وأخواتها أو تنافرها معهن. ولذلك يذهب محمد زكي العشماوي إلى أن عبد القاهر الجرجاني" منحته ثروته اللغوية وإلمامه الواسع باللغة إلمام إحساس وذوق القدرة على الوعي بما تحمله من ظلال مختلفة من المعنى بالقياس إلى السياق الذي وردت فيه، فمضمون الكلمة عنده يقل أو يكثر، ينبسط أو ينكمش بحسب علاقتها بالموكب المتحرك، الذي تسير فيه الكلمة مع ما تقدمها وما تلاها من ألفاظ" .
ويبين عبد القاهر وجه الإعجاز في القران انه راجع إلى ترابط الألفاظ وتألفها ففي تحليله لقوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) . يقول:" فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع، انك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وان لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة، وهكذا إلى أن تستقريها إلى أخرها، وان الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها" .
وان أردت اظهر أمرا في هذا المعنى، فانظر إلى قول إبراهيم بن العباس:
فَلَوْ إذْ نَبَا دَهْرٌ وأنْكِرَ صَاحـِبٌ وسُلِّط أعْدَاءٌ و غَابَ نَصـِيرُ
تَكُونُ عن الأهوازِ دَارِى بِنَجْوَةٍ ولكنْ مقاديرٌ جَرَتْ وأمُــورُ
وَإنِّي لأرْجُو بَعْدَ هذا مُحــَمَّدا لافْضَلِ مَا يُرْجَى أخٌ وَوَزِيـرُ
فانك ترى ما ترى من الرَّونق والطَّلاوة، ومن الحسن والحَلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك، فتجدُه إنّما كان من اجل تقديمه الظرفَ الذي هو "إذ نبا" على عامله الذي هو " تكون" وان لم يقل: فلو تكون عن الأهواز دارى بنجوةٍ إذ نبا دهرٌ، ثم أن قال :" تكون" ولم يقل " كان" ثم أن نكَّر الدهر ولم يقل: "فلو إذ نبا الدهر" ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعدُ، ثم أن قال : "وأُنْكِرَ صاحبٌ" ولم يقل: وأنكرتُ صاحباً، لا ترى في البيتين الأولين شيئا غير الذي عددته لك تجعله حُسناً في النظم، وكله من معاني النحو كما ترى، وهكذا السبيلُ أبدا في كل حُسنٍ ومزيةٍ رايتهما قد نُسبا إلى النظم وفضلٍ وشرف أحيل فيهما عليه" .
والجرجاني بتفسيره النظم على نمط ما فسره به، يكون قد فتح باب الاحتمالات بشأن الوجوه والفروق التي تأتي عليها معاني النحو، إذ ليس للمعاني النحوية مزية في ذاتها، ولكن مزيتها تعرض لها بحسب المقام، وبحسب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، يقول الجرجاني موضحا هذا الأمر:" وإذ قد عرفت أن مدار النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تَعرِض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض... بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع، وبحسب المعنى الذي تريد والفرق الذي تؤم" .
وعموما فان الجوانب التداولية التي اهتدى إليها عبد القاهر الجرجاني، لها مدخل عظيم في نظرية النظم عنده، إذ لا شك أن للمقام دور في تشكل المعاني في نفس المتكلم وانتظامها، وما دامت الألفاظ تتألف حسب ائتلاف المعاني في النفس، فان للمقام والمقاصد أيضا دخل في انتظامها.
وهذه المستويات الثلاثة تتلاحم فيما بينها داخل نظرية النظم، وهذه المستويات هي نفسها المكون المركزي في أصل الكلام، " لأن بناء التراكيب اللغوية ونظم الكلام وتأليفه يحتاج إلى دقة في الفهم، وروية وبعد في الرؤية والبحث عن الدلالات المختلفة، وما يستتبعها من المعاني القائمة كلها على قواعد النحو" .
وانسجاما مع هذا التصور العميق الذي بناه الجرجاني، يربط محمد منذور بين نظرية النظم عنده وبين ما توصل إليه علم اللغة المعاصر قائلا:" وفي الحق أن عبد القاهر قد اهتدى في العلوم اللغوية كلها إلى مذهب لا يمكن أن يبالغ في أهميته مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة النظير... هو اصح واحدث ما وصل إليه علم اللغة في أوربا" .
ويتوافق تمام حسان مع ما ذهب إليه منذور في أن عبد القاهر الجرجاني يضاهي بدراسته للنظم احدث النظريات في الغرب قائلا:" ومع قطع النظر عن رأي الشخصي في قيمة البلاغة العربية بعامة، من حيث كونها من مناهج النقد الأدبي* وعن صلاحيتها أو عدم صلاحيتها في هذا المجال، أجدني مدفوعا إلى المبادرة بتأكيد أن دراسة عبد القاهر للنظم وما يتصل به، تقف بكبرياء كتفا إلى كتف مع احدث النظريات الغوية في الغرب، وتفوق معظمها في مجال فهم طرق التركيب اللغوي، هذا مع الفارق الزمني الواسع الذي كان ينبغي أن يكون ميزة للجهود المحدثة على جهد عبد القاهر" .
وبهذا التناول الدقيق لنظرية النظم موصولة الأسباب باللغة، من جهاتها المختلفة، اعتبر عبد القاهر واضع علم البلاغة والمؤسس الحقيق لها، ويظهر أن هذا الاعتبار مرده فيما نعتقد إلى أن عبد القاهر الجرجاني، كان أول من وضع نظرية متكاملة في البلاغة، أما ما سواه من السابقين عليه فلم تكن بحوثهم فيها غير جزئيات مشتتة لا يكاد يؤلف بينها نظام ولا تصل بين أجزائها وحدة بلغت من الدقة والأصالة ما بلغته عند الجرجاني.
ولعمري إن هذا التراث الزخم الذي خلفه القدامى، المليء بتصورات لغوية ونقدية وغيرها، لصالح أن يكون محط اهتمامنا ومجال دراستنا، لشق صدفه واستخراج كنوزه، من اجل بناء نظريات لغوية ونقدية في مختلف الميادين، تكون منطلقا من اجل بناء الذات، وترسيخ قدمها في ساحة العلوم والمعارف الإنسانية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل