رضوان الرقبي
- مراتب النظم عند الجرجاني:
كان من الطبيعي أن يتحدث الجرجاني عن مراتب النظم، وأن يميز بينها على أساس تبيان أوجه الإعجاز في الخطاب القرآني، وتبيان عناصر الشعرية أو الأدبية في الخطاب البشري، وتبعا لهذا الأمر يمكن أن نميز بين مراتب ثلاث للنظم عند عبد القاهر، يمكن حصرها في المستويات التالية:
ـ المستوى العادي
ـ مستوى الشعرية أو الأدبية
ـ مستوى الإعجاز
1 ـ المستوى العادي للنظم:
يصفه الجرجاني بأنه الكلام العادي المؤلف بطريقة لا تراعي إلا صحة الإعراب، قائلا:" واعلم أن من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر وروية حتى انتظم، بل ترى سبيله في ضم بعضه إلى بعض، سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجئ له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين، وذلك إذا كان معناك معنى لا تحتاج أن تصنع فيه شيئا غير آت تعطف لفظا على مثله" .
فالمستوى العادي من النظم عند الجرجاني هو الذي يتوخى صاحبه عطف كلم، بدون أن يتوخى معاني النحو، ودون أن يسمو بخطابه إلى مستوى الأدبية، أي انه لا يبحث في أن نظمه مؤسس على قواعد جمالية، تجعل المتلقي لهذا الخطاب يعمل فكره من اجل استخراج دلالاته، بل هو خطاب مباشر؛ الغرض منه إفهام المتلقي دون إحداث تفاعل تأويلي بينهما.
وقد مثل الجرجاني لهذا الصنف من النظم، بعدد من الأمثلة مثل قول بعض البلغاء في وصف اللسان" اللسان أداة يظهر بها حسن البيان، وظاهر يخبر عن الضمير وشاهد ينبئك عن غائب، وحاكم يفصل به الخطاب، وواعظ ينهى عن القبيح، ومزين يدعو إلى الحسن وزارع يحرث المودة، وحاصد يحصد الضغينة، ومُلهٍ يُونِقُ الأسماع " .
يعلق الجرجاني على الأمثلة التي أوردها، والتي لم يتوخ أصحابها إلا عطف بعض الكلم على بعض قائلا:" فما كان من هذا وشبيهه لم يجب به فضل إذا وجب، إلا بمعناه أو بمتون ألفاظه دون نظمه وتأليفه، وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعا، وحتى تجد إلى التخير سبيلا، وحتى تكون قد استدركت صوابا" .
وهو بهذا يحدد المميزات التي تجعل من النظم يرتقي إلى مستوى أفضل من هذا المستوى العادي، وهي:
ـ أن ترى في الأمر مصنعا
ـ أن تجد إلى التخير سبيلا
ـ أن تكون قد استدركت صوابا
وهكذا فهذا المستوى من النظم الذي يراعى فيه فقط الصحة والالتزام بالإعراب، لا يرى فيه الجرجاني قيمة شعرية أو أدبية، لأنه علم مشترك بين جميع العارفين باللغة، لأن المزية التي فيه ترجع إلى " لفظه دون نظمه، لأنه لا يعدو ضم جمل عطف بعضها على بعض، من غير أن يقصد فيها إلى أن تؤلف هذه الجمل صورة معجبة، أو تبرز هيئة مثيرة " .
وعلى هذا الأساس فهذا المستوى العادي من النظم عند الجرجاني، مرتبط بالإخبار المباشر الذي لا يحتاج فيه المتلقي إلى تدبر ولا إلى إعمال الفكر، كما لا يحتاج فيه ناظمه إلا أن يكون عارفا باللغة متقنا لإعرابها، حتى يؤلف بين عناصر الكلم.
2 ـ مستوى الشعرية أو الأدبية:
أورد عبد القاهر هذا النوع من النظم تحث عنوان" فصل في النظم يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع" . يقول في مطلعه:" اعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر ويغمض المسلك، في توخي المعاني التي عرفت، أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول، وان تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا، وان يكون حالك فيه حال البياني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك، وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين، وليس لما شانه أن يجيء على هذا الوصف حد يحصره وقانون يحيط به" .
وإذا كان الجرجاني قد أكد على أن النظم هو توخي معاني النحو، فانه في هذا المستوى العالي لم يكتف بهذه المعاني النحوية، بل ربطها بالمقامات والمواضع التي تحدد هذه المعاني النحوية، ذلك أن المقاصد والمقامات هي التي تكسب هذه المعاني جمالية ورونقا، بالإضافة إلى أنها تمنح الخطاب تناسبا واتساقا، مما يجعله بنية موحدة، لان الأمر كله في خطاب الجرجاني دائر على تناسب الكلام مع بعضه البعض وشدة ارتباطه به، حتى تشعر النفس عند تلاؤمه بالارتياح، وتجد قبولا له، ولن يكون ذلك إلا إذا راعى مؤلف الكلام وهو يضع هذه اللفظة مع الألفاظ التي قبلها والأخرى مع التي بعدها، وان ينعم نظره في كل ذلك مراعيا المقامات والأوضاع أيضا، وثمة ميزة أخرى لهذا المستوى من النظم وهو كونه مما لا يلين قياده بيسر، ولا يتوصل إلى مكمن الجمال فيه بسهولة فيحتاج بذلك إلى رشح الجبين وكد الذهن والتأمل، لأنه باب يدق فيه النظر، ويغمض المسلك في توخي المعاني على حد تعبير الجرجاني.
ولذلك فهو يقرر أن هذا النمط من الكلام هو النمط العالي، قائلا:" وإذا قد عرفت هذا النمط من الكلام وهو ما تتحدد أجزاؤه حتى يوضع وضعا واحدا، فاعلم انه النمط العالي والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمه فيه" .
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن النظم أو المعاني التي تقوم عليها الشعرية، تتسم بالدينامية والفاعلية، مما يصعب معها حصرها أو الإحاطة بها، وذلك لأنه تجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة، ليست لها غاية تقف عندها ونهاية لا نجد لها ازديادا بعدها .
وعلى هذا الأساس" فهذا النوع من النظم يحتاج قارئا متميزا، يستطيع كشف المسالك الغامضة وشق الصدفة، بل الغوص في الأعماق للوصول إلى مكامنها الأولى، وان عملية الكشف هذه تتطلب مكابدة ومعاناة، ومشقة شديدة، لان هذا النص حسب الجرجاني لا يمكن نفسه لصاحبه بسهولة ويسر" .
وبذلك يكون الكشف عن معاني النظم في الخطاب، هو كشف عن معاني الشعرية أو الأدبية، أي ما يجعل من الأدب أدبا، وهذه المكونات التي يحلى بها الخطاب مرتبطة بمجموع المعاني النحوية؛ المرتبطة بدورها بالأوضاع والمقامات والمقاصد، والتي تؤلف في النهاية بنية موحدة الأجزاء متناسبة الدلالة، ولذلك فالمحلل لهذا النوع من النظم يشعر بالمكابدة والمشقة في استخراج المعاني الثاوية في بنية هذا المستوى، وفي الإمساك بالخيط الناظم لهذه المعاني، هذه المعاناة هي التي تخلق لذة القراءة بتعبير بارت، لان القارئ المتذوق المترس في هذه اللحظة يكون في تفاعل تام مع النص، وبالتالي يصبح منتجا لنص ثان مشبع بتحليلات جمالية ذوقية، يبرز في معالمها معاني الشعرية.
3 ـ مستوى الإعجاز:
هذا المستوى من النظم يفوق جميع المستويات النظمية البشرية، ولعل هذا ما حدا بالجرجاني إلى أن يؤلف دلائل الإعجاز، إذ كان الدافع الديني وإبراز أوجه الإعجاز القرآني قويا في فكرة النظم عند الرجل، ولذلك نراه قد استعرض أراء سابقيه في الإعجاز فرأى أن ما اعتمدوه منها لا يدل على إعجاز القران، ومن ثم نفى أن يكون الإعجاز في الأخبار عن الغيوب أو في الصرفة أو في الألفاظ أو المعاني أو في الاستعارات.... وفند أراء القائلين بها بطريقة فنية منطقية، ليصل إلى القول بان إعجاز القران في نظمه قائلا:" فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم في القران في شيء مما عددناه، لم يبق إلا أن يكون في النظم" .
وهذا المستوى من النظم لا يمكن لأحد أن يصل إلى مرتبته، لأنه وجه من أوجه الإعجاز التي تحدي به العرب الفصحاء البلغاء، يقول تعالى ( قُلْ لانْ اجْتَمَعتِ الإنْسُ وَالجِنُ عَلى أنْ يَأتُوا بِمِثلِ هَذا القُرانِ لاَ يَأتُونَ بِمِثْلِه وَلَو كَانَ بَعضُهُم لِبَعْضٍ ظَهِيرا). بل إن القران تحداهم بان يأتوا بعشر سور أو بسورة واحدة من مثله، لكنهم لم يقدروا على ذلك، لان حسن النظم والتأليف القرآني ابهرهم وأبان عن عجزهم.
هذه هي أهم مراتب النظم عند الجرجاني، والتي تدرج فيها من العادي إلى العالي إلى الاعجازي الذي هو محور نظريته، وبذلك أصبح النظم عند الجرجاني نظرية علمية لها أصولها، هذه النظرية التي خرجت من دائرة الإعجاز إلى دائرة اكبر وأوسع، يمكن أن يُرجع إليها، ويقاس بها الحسن في كل الأساليب والتراكيب،، باعتبارها أهم المقاييس في النقد الأدبي.