السردية العربية بين الأصالة والمعاصرة
----------------------------------------------
تستوقفني دوما تلك القناعة التي أصبحت راسخة في أذهان كثير من النقاد العرب الذين يعتبرون أن السردالقصصي؛ له أصول ثابتة في التراث العربي؛ حيث نجده كما يقولون في حكايات ألف ليلة و ليلة؛ ومقامات بديع الزمان الهمداني؛ وفي السرد التاريخي؛ وفي الحكاية الشعبية الشفوية؛ والمكتوبة.....
يقول الدكتور جميل الحمداوي "نجد في تراثنا العربي القديم مجموعة من الأشكال السردية النثرية، تقترب بشكل من الأشكال من القصة القصيرة جدا....ومن ثم يمكن اعتبار الفن الجديد امتدادا تراثيا للنادرة؛ و الخبر؛ و النكتة؛ و القصة؛ و الحكاية؛ و اللغز؛ و الشعر؛ و الأرجوزة؛ و الخطبة؛ و الخرافة؛ وقصة الحيوان؛ و المثل؛ و الشذرة؛ و القبسة الصوفية "
ويذكرالدكتورعادل الفريجات في كتابه النَّقْد التطبيقي للقصة القصيرة في سورية " أن القصة جنس أدبي عريق وتليد في التراث العربي والإنساني؛ وربما يرجع تاريخه إلى ماقبل عهد السومريين الذين وُجدوا قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة ونيف؛ فمنذ أن وعى الإنسان ذاته؛ واحتاج إلى الاتصال بغيره؛ سرد وروى؛ وأشرك غيره في معرفة ماجرى له ولغيره من بني جنسه؛ فظهورالقصة في نظره إذن كان ضرورة اجتماعية قبل أن يكون اختيارافنيا" .
ويرى الدكتور عبد الله إبراهيم أنه ليس صحيحا القول بأن السردية العربية نمط كتابي مستورد من الغرب؛ وأن كل بحث في السرديات العربية ينبغي عليه ألا يهمل "التركة السردية الثمينة التى تراكمت طوال أكثر من ألف عام، ثم بدأت تتأزم فى القرن التاسع عشر... فالسردية العربية الحديثة ظاهرة مركبة تفاعلت أسباب كثيرة من أجل ظهورها" غير أنه يعود في الأخير ويلتزم موقف الحياد ويقول : "استدرجت قضية أصول الرواية ومصادرها ونشأتها وريادتها باعتبارها لب السردية العربية الحديثة آراء كثيرة منها، ما ينكر على الموروث السردى القديم إمكانية أن يكون أصلا من أصولها وآخر يراه حضنا ترعرعت بذورها فى أوساطه وغيره يؤكد أنه الأب الشرعى لها، وثمة آراء تراها مزيجا من مناهل عربية وغربية" .
وشخصيا وبالرغم من أنني من المعجبين بالتراث القديم؛ وعلى وعي بأهميته؛ وأحيانا أكاد أكون مناصرا للأصولية؛ غيرأنه ينبغي علينا أن نكون حذرين من الارتماء بشكل أورتدكسي في أحضان التراث؛ونعيش وهم الأصول ؛ أي أننا كثيرا ما نكون مغرمين بالنظر في المرايا المقعرة كما قال عبد العزيز حمودة؛ ناسين أو متناسين الأشواط الطويلة التي قطعها النقد الأدبي المعاصر؛ متتبعا سير السرديات العالمية التي تتفاعل مع مستجدات العصر؛ مبينا ما لتراثنا وما عليه....
ذلك أنه ينبغي علينا أولا أن نشير إلى أن الثقافة العربية اعتمدت بشكل واضح على الشعر؛ أكثر من اعتمادها على النثر الذي يضم الإبداعات السردية، وكأن الشعر هو المركز و السرد هو الهامش؛ قد تناوله النقاد العرب في مرحلة متأخرة وبشكل محتشم، على اعتبار أن السرد العربي كما جاء في كثير من الدراسات؛ كان مرفوضا من طرف النقاد والمؤرخين؛ خوفا من إعجاب القراء والانشغال به عن قراءة القرآن؛ ولهذا السبب لم يعرف العرب ثقافة سردية واضحة.
صحيح إن السرديات بصفة عامة لها حضور فطري عند الإنسان؛ و العرب شأنهم شأن جميع الشعوب؛ لهم ميراث حاضر وآخر قديم؛ له مرجعية في التراث العربي القديم؛ فتراثنا كان يعرف نماذج سردية تقترب من السرد القصصي وتشبهه؛ مثل تكاذيب الأعراب وقصص الحيوان؛ وفن الخبر وقصص الأحلام وقصص الأمثال وقصص الرحلات؛ وقد مارسوا السرد/القص وعقدوا له المجالس، واجتمعوا حول الرواة و القصاصين، بمعنى أن الفعل القصصي حاضر منذ أقدم العصور العربية .
غير أن الدراسات النقدية أكدت أن (السرد القصصي) بمفهومه الحديث لا وجود له في التراث العربي القديم، وأغلب الدراسات التي كتبت حوله؛ ظلت لوقت طويل وثيقة الصلة بالتخيلات ومرتعا خصبا لصراع التأويلات الأيديولجية على عمق لاهوتي فيه كثير من التأثر بالدراسات الفقهية؛ القائمة على أسس ومبادئ الرواية و السند و اللوازم الضرورية لفعل الحكي القديم.
نستنتج إذن بإن السردية العربية لم تعرف مصطلح (السرد القصصي) بالمعنى الحديث وإنما عرفت مصطلحا آخرهو (قَص) بفتح القاف، وهي مشتقة من قَص يقُص قصا وقصصا؛ بمعنى أورد، ولها كذلك معنى؛ (الخبر) أي أورد الخبر. والقاص هو الذي يأتي بالخبر، ومنه كذلك جاءت كلمة تَقَصصَ أي تَتبع، و قص أثره: يقصه قصا وقصيصاً أي تتبعه...
وفي التراث العربي ارتبطت عملية القص بالليل، فهي حديث الليل؛ وسمر الليل؛ والقصة نوعان: إما شفوية أو كتابية، وكثيرا ما ارتبطت القصة العربية بالشفاهية لأنها كانت تعتمد على راو أو حاك يروي الحكاية القصصية .
وفي تاريخ النثر العربي مرويات كثيرة رفضها الرسول عليه الصلاة و السلام؛ مثل رفضه لمرويات النضر بن الحارث التي كانت معادية للدعوة الاسلامية؛ لمعارضته لآيات القرآن الكريم بأساطير سماها ب"أساطير الأولين"، وهي نمط من أنماط السرد و أنواعه؛ مما عرفه العرب ومارسوه في تلك الحقبة المبكرة، وهي تدخل ضمن ذاكرة الثقافة العربية بعامة، وضمن تاريخ السرد العربي بخاصة، إذ نراها بداية ظاهرة سردية مميزة، عرفها أبناء حقبة ما قبل الإسلام، صورة مقربة للقاص ولقصصه، وطبيعة مروياته، وصلتها بالقصص البطولي الفارسي، مما فيه ذكر لأبطال أسطوريين .
وفي العصر الاسلامي برزت نماذج قصصية إسلامية انتشرت في المساجد اعتمدت على الوعظ الديني، بالتركيز على قصص القرآن الكريم المليء بقصص من التاريخ الغابر، ومع الخلفاء الراشدين بدأ القصاصون يهتمون بتحريض المجاهدين على الجهاد انطلاقا من نماذج إسلامية مجاهدة أبلت البلاء الحسن. لكن القصص الاسلامية قد ازدهرت بشكل ملحوظ في العصر العباسي ودونت فيها كثير من الكتب من أمثال كتاب (كليلة ودمنة) لعبد الله بن المقفع، وكتاب (مقامات بديع الزمان الحمداني).
وبعد سقوط بغداد ظهرت نماذج قصصية أخرى من أمثال (ألف ليلة و ليلة) و (السيرة الشعبية). ولهذا يعتبر بعض النقاد بأن المقامة مرحلة مهمة من مراحل تطور القصة القصيرة و القصيرة جدا؛ ولكن ؛ ونتساءل هل فعلا في المقامة ما يتصف بصفات السرد القصصي القصير والقصير جدا؟...
إن القصة القصيرة جدا بالخصوص و بمفهومها المعاصر قد ظهرت في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية؛ فرضتها ظروف العصر؛ وحاجة الانسان الأوربي وخاصة الطبقة البورجوازية إلى وسيلة سريعة للتعبير عن نفسها وعن محيطها الاجتماعي؛ فكانت القصة القصيرة جدا هي الشكل القصصي المناسب للعصر الحديث المليء بالمتغيرات السريعة و المطردة.
وعندما انفتح العرب على السرديات الغربية تحورت اللفظة إلى القصة بكسر القاف و أصبحت تعني الكتابة القصصية القصيرة و القصيرة جدا؛ وكان ذلك بحكم تلاقح الثقافات واطلاع العرب على الثقافة الأوربية؛ وهكذا انتقلت القصة القصيرة جدا إلى الوطن العربي.
وكانت حاجة الأدباء العرب إلى مثل هذا النوع من الكتابة ملحة وخاصة بعد التحولات التي رافقت الوعي العربي منذ هزيمة 1967 وما لحق بالعالم العربي من انكسارات وخيبات؛ فضلاعن تأثير تيار الوعي وتقنيات السرد الحديثة التي عززت الانقلاب إلى الداخل وجعلت القاص (يغني غناء مباشرا مسموعا لأنه يصف حالة عقله؛ وعواطفه وانفعالاته إزاء العالم و الأشياء).
محمد يوب